فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {قل لَئِنِ اجتمعت الإِنس والجِنُّ}.
قال المفسرون: هذا تكذيب للنَّضْر بن الحارث حين قال: لو شئنا لقلنا مثل هذا.
والمِثْل الذي طُلِبَ منهم: كلام له نظم كنظم القرآن، في أعلى طبقات البلاغة.
والظهير: المُعين.
قوله تعالى: {ولقد صرَّفْنا للناس في هذا القرآن} قد فسَّرناه في هذه السورة [الإسراء: 41]، والمعنى: من كل مَثَل من الأمثال التي يكون بها الاعتبار {فأبى أكثر الناس} يعني أهل مكة {إِلا كُفورًا} أي: جحودًا للحق وإِنكارًا.
قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجِّر لنا من الأرض يَنبوعا} سبب نزول هذه الآية وما يتبعها، أن رؤساء قريش، كعُتبة، وشيبة، وأبي جهل، وعبد الله بن أبي أُمية، والنضر بن الحارث في آخرين، اجتمعوا عند الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إِلى محمد فكلِّموه وخاصموه حتى تُعذَروا فيه، فبعثوا إِليه: إِن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلِّموك، فجاءهم سريعًا، وكان حريصًا على رشدهم، فقالوا: يا محمد، إِنا والله لا نَعلم رجلًا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفَّهت الأحلام، وفرَّقت الجماعة، فإن كنتَ إِنما جئتَ بهذا لتطلب مالًا، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالًا، وإِن كنتَ إِنما تطلب الشرف فينا، سوَّدناك علينا، وإِن كان هذا الرَّئِيُّ الذي يأتيك قد غلب عليك، بذلنا أموالنا في طلب الطِّب لك حتى نُبْرِئك منه، أو نُعْذَر فيك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن تقبلوا مِنِّي ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإِن تردُّوه عليَّ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».
قالوا: يا محمد، فإن كنتَ غير قابل مِنّا ما عرضنا، فقد علمتَ أنه ليس من الناس أحد أضيقَ بلادًا ولا أشد عيشًا منا، سل لنا ربك يُسيِّر لنا هذه الجبال التي ضيِّقت علينا، ويُجري لنا أنهارًا، ويبعث من مضى من آبائنا، ولْيكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب، فإنه كان شيخًا صدوقًا، فنسألهم عما تقول: أحق هو؟ فإن فعلتَ صدَّقناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بهذا بُعثتُ، وقد أبلغتكم ما أُرسلتُ به قالوا: فَسَلْ ربَّك أن يبعثَ مَلَكًا يصدِّقك، وسله أن يجعل لك جِنانًا، وكنوزًا، وقصورًا من ذهب وفضة تغنيك؛ قال: ما أنا بالذي يسأل ربه هذا قالوا: فأسقط السماء علينا كما زعمت بأن ربَّك إِن شاء فعل؛ فقال: ذلك إِلى الله عز وجل؛ فقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتيَ بالله والملائكة قبيلًا» وقال عبد الله بن أبي أُمية: لا أؤمن لك حتى تتخذ إِلى السماء سُلَّمًا، وترقى فيه وأنا أنظر، وتأتي بنسخة منشورة معك، ونفرٍ من الملائكة يشهدون لك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حزينًا لِمَا رأى من مباعدتهم إِياه، فأنزل الله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك...} الآيات، رواه عكرمة عن ابن عباس.
قوله تعالى: {حتى تفجر} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: {حتى تُفَجِّرَ} بضم التاء، وفتح الفاء، وتشديد الجيم مع الكسرة.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {حتى تَفْجُرَ} بفتح التاء، وتسكين الفاء، وضم الجيم مع التخفيف.
فمن ثقَّل، أراد كثرة الانفجار من الينبوع، ومن خفَّف، فلأن الينبوع واحد.
فأما الينبوع: فهو عين ينبع الماء منها؛ قال أبو عبيدة: هو يَفعول، من نبع الماء، أي: ظهر وفار.
قوله تعالى: {أو تكونَ لك جَنَّة} أي: بستان {فتفجر الأنهار} أي: تفتحها وتجريها {خلالها} أي: وسط تلك الجنة.
قوله تعالى: {أو تُسْقطَ السماء} وقرأ مجاهد، وأبو مجلز، وأبو رجاء، وحميد، والجحدري: {أو تَسقُط} بفتح التاء، ورفع القاف {السماءُ} بالرفع.
قوله تعالى: {كِسفًا} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {كِسْفًا} بتسكين السين في جميع القرآن إِلا في [الروم: 48] فإنهم حرَّكوا السين.
وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم بتحريك السين في الموضعين، وفي باقي القرآن بالتسكين.
وقرأ ابن عامر هاهنا بفتح السين، وفي باقي القرآن بتسكينها.
قال الزجاج: من قرأ {كِسَفًا} بفتح السين، جعلها جمع كِسفة، وهي: القطعة، ومن قرأ {كِسْفًا} بتسكين السين، فكأنهم قالوا: أَسْقِطها طبقًا علينا؛ واشتقاقه من كسفتُ الشيء: إِذا غطيَّته، يعنون: أسقطها علينا قطعة واحدة.
وقال ابن الأنباري: من سكَّن قال: تأويله: سترًا وتغطية، من قولهم: قد انكسفت الشمس: إِذا غطاها ما يحول بين الناظرين إِليها وبين أنوارها.
قوله تعالى: {أو تأتيَ بالله والملائكة قبيلًا} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: عيانًا، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل.
وقال أبو عبيدة: معناه: مقابلة، أي: معاينة، وأنشد للأعشى:
نُصَالِحُكُمْ حَتَّى تَبُوؤُوا بِمِثْلِهَا ** كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسَّرَتْهَا قَبِيلُهَا

أي: قابِلَتُها.
ويروى: وجَّهتْها يعني بدل: يسرتها.
والثاني: كفيلًا أنك رسول الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، قال: القبيل، والكفيل، والزعيم، سواء؛ تقول: قبلت، وكفلت، وزعمت.
والثالث: قبيلةً قبيلةً، كل قبيلة على حِدَتها، قاله الحسن، ومجاهد.
فأما الزخرف، فالمراد به الذهب، وقد شرحنا أصل هذه الكلمة في [يونس: 24]، و{ترقى} بمعنى تصعد؛ يقال: رَقِيتُ أرقَى رُقِيًَّا.
قوله تعالى: {حتى تُنَزِّل علينا كتابًا} قال ابن عباس: كتابًا من رب العالمين إِلى فلان بن فلان يصبح عند كل واحد منا يقرؤه.
قوله تعالى: {قل سبحان ربي} قرأ نافع، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {قل} وقرأ ابن كثير، وابن عامر: {قال} وكذلك هي في مصاحف أهل مكة والشام، {هل كنتُ إِلا بشرًا رسولًا}، أي: أن هذه الأشياء ليست في قوى البشر.
فإن قيل: لِم اقتصر على حكاية {قالوا} من غير إِيضاح الرد؟
فالجواب: أنه لما خصهم بقوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإِنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن} فلم يكن في وسعهم، عجَّزهم، فكأنه يقول: قد أوضحت لكم بما سبق من الآيات ما يدل على نبوَّتي، ومن ذلك التحدِّي بمثل هذا القرآن، فأما عَنَتُكم فليس في وسعي، ولأنهم ألحُّوا عليه في هذه الأشياء، ولم يسألوه أن يسألَ ربه، فردَّ قولهم بكونه بشرًا، فكفى ذلك في الردِّ. اهـ.

.قال القرطبي:

{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}.
أي عونًا ونصيرًا؛ مثل ما يتعاون الشعراء على بيت شعر فيقيمونه. نزلت حين قال الكفار: لو نشاء لقلنا مثل هذا؛ فأكذبهم الله تعالى. وقد مضى القول في إعجاز القرآن في أوّل الكتاب.
والحمد لله.
و{لاَ يَأْتُونَ} جواب القسم في {لئن} وقد يجزم على إرادة الشرط.
قال الشاعر:
لئن كان ما حُدّثْتِهِ اليوم صادقًا ** أُقِم في نهار القَيْظ للشمس بادِيَا

قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} أي وجهنا القول فيه بكل مثل يجب به الاعتبار؛ من الآيات والعبر والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي وأقاصيص الأوّلين، والجنة والنار والقيامة.
{فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا} يريد أهل مكة، بيّن لهم الحقّ وفتح لهم وأمهلهم حتي تبيّن لهم أنه الحق، فأبوا إلا الكفر وقت تبيّن الحق.
قال المهدويّ: ولا حجة للقدريّ في قولهم: لا يقال أبى إلا لمن أبى فعل ما هو قادر عليه؛ لأن الكافر وإن كان غير قادر على الإيمان بحكم الله عليه بالإعراض عنه وطبعه على قلبه، فقد كان قادرًا وقت الفسحة والمهلة على طلب الحق وتمييزه من الباطل.
قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا}.
الآية نزلت في رؤساء قريش مثل عتبة وشيبة ابني ربيعة، وأبي سفيان والنضر بن الحارث، وأبي جهل وعبد لله بن أبي أمية، وأمية بن خلف وأبي البختريّ، والوليد بن المغيرة وغيرهم.
وذلك أنهم لما عجزوا عن معارضة القرآن ولم يرضَوْا به معجزة، اجتمعوا فيما ذكر ابن إسحاق وغيره بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فآتهم، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بدو، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا يحبّ رشدهم ويعزّ عليه عَنَتهم، حتى جلس إليهم فقالوا له: يا محمد! إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلًا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمتَ الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفّهت الأحلام وفرّقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، أو كما قالوا له.
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكًا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه قد غَلَب عليك وكانوا يسمّون التابع من الجن رئيًا فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نُعذر فيك.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولًا وأنزل عليّ كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا فبلّغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» أو كما قال صلى الله عليه وسلم قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئًا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدًا ولا أقلّ ماء ولا أشدّ عيشًا منا، فسَلْ لنا ربَّك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيِّر عنا هذه الجبال التي قد ضيّقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليخرق لنا فيها أنهارًا كأنهار الشأم، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا قُصي بن كلاب؛ فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول، أحقٌّ هو أم باطل، فإن صدّقوك وصنعت ما سألناك صدّقناك، وعرفنا به منزلتك من الله تعالى، وأنه بعثك رسولًا كما تقول.
فقال لهم صلوات الله عليه وسلامه: ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من الله تعالى بما بعثني به وقد بلّغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم.
قالوا: فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك! سَلْ ربك أن يبعث معك مَلَكًا يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك، واسأله فليجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة يغنيك بها عمّا نراك تبتغي؛ فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولًا كما تزعم.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربّه هذا وما بعثت بهذا إليكم ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا أو كما قال فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم» قالوا: فاسقط السماء علينا كسَفًا كما زعمت أن ربّك إن شاء فعل؛ فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل.
قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك إلى الله عز وجل إن شاء أن يفعله بكم» فعل قالوا: يا محمد، أَفَما عَلم ربّك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب، فيتقدّم إليك فيعلمك بما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذ لم نقبل منك ما جئتنا به.